تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس - الفصل الأول


الفَصْلُ الأَوَّل -  مقدمة في الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إسبانيا قبيل الفتح العربي 


عرف شبه الجزيرة الايبيربة، أي إسبانيا والبرتغال، في الأزمان القديمة بـ (ايبارية)، وعندما جاء الرومان أطلقوا عليه اسم ( Hispania) ، ومن هنا جاء اللفظ العربي (اشبانية) أو (اصبانية) (1).
 وقد تحول هذا اللفظ في لغة القرون الوسطى الرومانسية إلى Espana) ) .
 أما مصطلح (الأندلس)، الذي يشمل المناطق التي حكمها العرب والمسلمون من شبه الجزيرة، فقد اشتقه الجغرافيون والمؤرخون العرب من الكلمات الآتية: الأندليش أو الأندلش أو الأندلس، وهي الأسماء التي سُمي بها الوندال، الذين سيطروا على أجزاء من شبه الجزيرة الآيبيرية، في الفترة من 408 - 429 م .
إن إسبانيا بلاد جبلية تضم ودياناً وأحواضاً نهرية عظيمة، من أمثال، نهر الأبرو 
Ebro، ونهر المنهوMinho، نهر دويرة Douro، ونهر تاجة Tajo، ووادي آنة Guadiana، والوادي الكبيرGuadalquivir. وتحتل الميزيتا ( Meseta) ، التي تعني بالاسبانية النجد أو السهل المرتفع الواسع، معظم شبه الجزيرة الآيبيرية، ولكن تجمعات السكان الكبيرة، كانت دائماً مركزة قرب الشواطئ ووديان الأنهار الكبيرة. وكانت المدن الداخلية الرئيسة في العهد الروماني، سرقسطة Zaragoza، وطليطلة Toledo، وماردة Merida، وأشبيلية Sevilla، وقرطبة Cordoba، حصونا على الأنهار، وقد استمرت 
هذه المدن في أهميتها في العهد القوطي، والعهود العربية الإسلامية اللاحقة.



اشتهرت إسبانيا منذ القدم بثروتها المعدنية، وإنتاجها الزراعي، وتجارتها المزدهرة.
ولقد كانت هذه العوامل من الدوافع المغرية التي أدت إلى حدوث سلسلة من الهجرات والغزوات الأجنبية للبلاد. ويشكل الآيبيريون 
Iberians، الذين جاؤوا من افريقية، أساس جنس البحر المتوسط من السكان. ولقد عبر الكلت Celts، والأقوام الهندو - أوروبية Indo-European، جبال ألبرت Pyrenees، واستوطنوا في الأجزاء الشمالية والغربية من شبه الجزيرة.

 كما أسس الفينيقيون مستعمرات على السواحل الشرقية والجنوبية. وأخيراً وبعد صراع طويل من أجل السيادة والتفوق سيطر الرومان على إسبانيا، ولكنهم سرعان ما جوبهوا من قبل السكان المحليين، ولم يستطع الرومان إخضاع كل القبائل في شبه الجزيرة إلا في عهد الإمبراطور أوغسطس Augustus (27 ق. م - 14 م).
وقد أشار سترابو Strabo، المؤرخ اليوناني في القرن الأول قبل الميلاد، إلى بعض القبائل التي استوطنت شبه الجزيرة، من مثال الغاليسيين، والكانبتريانيين، والباسك، واللشدانيين، وغيرهم، ومع هذا، ففي بداية التاريخ الميلادي المسيحي، اصطبغ الكثير من هؤلاء السكان بالصبغة الرومانية .
وبرغم سيادة الرومان على إسبانيا لفترة طويلة، فإن الظواهر الحقيقية لانحطاط سلطتهم فيها بدت بوضوح منذ بداية القرن الخامس الميلادي، وذلك عندما ابتدأت القبائل الجرمانية البربرية بالاستيطان في شبه الجزيرة. ويصف سانت ازيدور الأشبيلي Saint Isidore of Seville، المتوفى عام 636 م، استيطان الوندال Vandals، والآلان Alani، والسويفي Suevi، في إسبانيا عام 408 م على أنه احتلال مدمر، أدى إلى نشر الخراب في كل أنحاء البلاد .
ونتيجة للحروب الكثيرة التي قامت بين هذه القبائل الجرمانية وبين القوط الغربيين، الذين كانوا يسكنون في تلك الفترة في غالة 
Gaul جنوب فرنسا، تحطمت قوة الآلان، والوندال الذين اضطروا إلى العبور إلى شمال افريقية في عام 429 م .
ثم تمكن القوط أخيراً من السيطرة على إسبانيا والتغلب على مملكة السويفي التي كانت ما تزال موجودة في الشمال الغربي من البلاد، وذلك في عهد الملك ليوفيخلد Leovigild (568 - 586 م) .

مملكة القوط الغربيين فى إسبانيا:
كانت مملكة القوط الغربيين هي الأخيرة في سلسلة ممالك البرابرة التي خلفت الإمبراطورية الرومانية، وذلك بعد أن انتهت هذه الأخيرة ككيان سياسي، واختفت من مسرح التاريخ. ولقد تمت عملية استيطان القوط الغربيين في إسبانيا في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس للميلاد. 
وكانوا يمثلون أقلية صغيرة فقط ضمن السكان الأصليين. ولا تتوفر معلومات إحصائية عنهم في هذا العصر، ومع هذا، فقد قدّر أحد المؤرخين المحدثين، أن نحواً من مئتي ألف إلى أربعمئة ألف من القوط استوطنوا بين كل ستة إلى تسعة ملايين من السكان الاسبان - الرومان Hispano-Romans (9) .
ولقد استوطن القوط في مناطق الأرياف والمدن على حد سواء. ولكن حتى في المدن، كان السكان الاسبان - الرومان يتغلبون عليهم بنسبة ثلاثة إلى واحد، ومما لا شك فيه، أن الفرق في النسبة كان أكبر في مناطق الأرياف.
نظام الحكم القوطي:
كان نظام الحكم القوطي ملكياً قائماً على مبدأ الانتخاب، حيث ينتخب الملك من قبل النبلاء ورجال الدين.
وقد حاول العديد من الملوك أن يقيموا نظاماً ملكياً ثابتاً يعتمد على نظام الوراثة، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل.
وكان يفترض بالملك أن يكون من أصل قوطي نبيل ويتمتع بأخلاق حسنة، ويختار من بين النبلاء، ولكن العادة جرت أن يتولى العرش أقوى هؤلاء بحد السيف.

 وكان الملك هو الرئيس الأعلى للجيش، ويتمتع بحق تعيين وعزل الأساقفة عن مناصبهم الدينية، ويحكم مستبداً، يتصرف في أمور البلاد كما يشاء. وكان للملك مجلس من النبلاء لمساعدته في الحكم، لكن الملوك استبدوا بالأمور ولم يعد لهذا المجلس من أثر في السلطة، فكان الملوك يصدرون القوانين وينفذونها ويقضون في الأمور كما يريدون .
وكانت مجالس كنيسة طليطلة هي القوة الكبرى في الحياة السياسية والدينية في العهد القوطي. وهذه المجالس كانت بمثابة جمعيات وطنية لمملكة القوط الغربيين تجتمع بين الحين والحين للنظر في مسائل الدولة الكبرى. وكان أصل مجلس طليطلة دينياً يتألف من كبار رجال الدين الكاثوليك ويعقد للنظر في أمور كنيستهم ورعاياها.
ولكن بعد اعتناق القوط للكاثوليكية، أصبح هذا المجلس رسمياً يعقد بأمر من الملك، ويحضره كبار رجال الدولة، ثم تحول مع الزمن إلى مجلس سياسي وديني في آن واحد يصدر القوانين والأحكام في مختلف القضايا، ثم اتسع سلطانه، وأصبح محكمة عليا، وانضم مجلس النبلاء إلى هذا المجلس الديني، فأصبح مجلساً أعلى للدولة .

 ومن الناحية النظرية كانت مجالس طليطلة قيداً على سلطة الملك، أما من الناحية العملية فقد كانت سنداً مهماً لسلطته وبخاصة بعد تحول القوط إلى الكاثوليكية عام 587 م، حيث أصبحت الكنيسة في إسبانيا على علاقة وثيقة بالبلاط. وفي القرن السابع الميلادي، لم يكن بإمكان أي مجلس أن ينعقد إلا إذا أمر الملك بذلك. وكان الأساقفة عادة يناقشون ويقرون القرارات التي تتضمنها المسودة التي يقدمها الملك، ولم يهملوا في أية قضية تعليماته، ولم ينتقدوه بصورة مباشرة، بل كانوا ينفذون كل مطاليبه (13).

الأحوال الاجتماعية في عهد القوط:
وفيما يخص التنظيم الاجتماعي، فقد حافظ القوط على نفس التركيب الذي وجدوه قائماً في إسبانيا أيام الرومان. وهكذا استمرت مساوئ العهد الروماني بالبقاء، وتركزت الثروة والممتلكات بيد مجموعة قليلة من الناس، وكان هناك عدم مساواة كبيرة في البنية الطبقية.
فالمجتمع القوطي كان يتألف من ثلاث طبقات؛ وهم طبقة كبار ملاك الأراضي والنبلاء وكبار رجال الدين، والطبقة العامة، وطبقة العبيد .
 وكان أبناء الطبقة العامة يتألفون من الأحرار البسطاء الذين ينتمون إلى أصول قوطية ورومانية، عاشوا في المناطق الحضرية وفي الأرياف.

 ومن هؤلاء أيضاً، العمال في المدن والذين كانوا ينتظمون ضمن أصناف ونقابات، ولا يحق لهم التحول عنها أو الانتقال إلى مدينة أخرى، ومن يهرب منهم كان يُجبر على العودة إلى مدينته الأصلية. وكانوا محرومين من الانتظام في سلك رجال الدين، أو أن يصبحوا موظفين قضائيين.

وبالنسبة إلى سكان الأرياف، فقد اضطر العديد منهم، نظراً لظروفهم الاقتصادية الصعبة، إلى تسليم أراضيهم إلى كبار النبلاء، ورضوا بالعمل والبقاء فيها كمستأجرين لقاء تمتعهم بحماية النبلاء. ولقد أصبح هؤلاء بالتدريج مشدودين بالأرض، وارتبطت علاقاتهم بأصحاب الأملاك مدى الحياة، حتى أنهم تحولوا أخيراً إلى ما يشبه الأقنان.
 وكان من جملة الالتزامات المفروضة عليهم أن يدفعوا عشر محاصيلهم إيجاراً، إضافة إلى تأدية بعض الخدمات الشخصية الأخرى للنبيل، وضريبة الرؤوس، أو الجزية Capitatio (16) .
وتأتي طبقة العبيد في الدرجة الدنيا من السلم الاجتماعي، ويكوّن هؤلاء الجماهير الغفيرة، ضحايا كل أنواع القهر والاضطهاد، وكانوا مملوكين لكبار النبلاء ورجال الدين، ويستخدمون للأغراض الزراعية والأعمال المنزلية على حد سواء.
ويبدو من مراجعة القوانين والتشريعات القوطية أن الظروف المعاشية للعبيد المهرة الذين كانوا يعملون في المدن، كانت أفضل من نظرائهم العمال الزراعيين.
وكانت الكنيسة الاسبانية تمتلك أيضاً عدداً كبيراً من العبيد، ولكن يتضح من تشريعات مجالس الكنيسة أن هؤلاء العبيد عاشوا في ظروف سيئة للغاية. ولهذا فليس من الغريب أن حاول العديد منهم الهرب والتخلص من عبوديتهم.
ويضاف إلى ذلك أن القوط، خاصة في أواخر عهدهم، ابتدأوا بتجنيد العبيد بالإكراه واستخدامهم في الجيش، مما أدى إلى تذمر هؤلاء وازدياد محاولاتهم في الهروب والنجاة. 

وقد اعترف الملك أخيكا Egica (687 - 702 م) في بداية القرن الثامن الميلادي، بأن العبيد الآبقين يختبئون في كل مكان من البلاد، حيث لا تخلو منهم أية مدينة أو قرية أو حصن أو دار ريفية أو خان. وقد شرع قانوناً وضع بموجبه عقوبات صارمة على كل من يفشل في مطاردة العبيد الهاربين، وإلقاء القبض عليهم .

أما الطبقة العليا، أي طبقة النبلاء فكانت تتألف من أغنياء القوط الغربيين، وبقايا طبقة النبلاء الرومان. ويتميز أفراد هذه الطبقة عن الأحرار الاعتياديين بأصلهم النبيل، وامتلاكهم للمزارع والضيع الكبيرة التي تزرع من قبل المستأجرين، وبخدمتهم في المناصب العليا في القصر وفي الإدارة .
 وكانت البلاد حتى منتصف القرن السابع الميلادي تحكم وتدار بواسطة إدارة مشتركة من الطبقة النبيلة  القوطية والرومانية.
ومن المظاهر المهمة لهذا النظام، أن الطبقة النبيلة القوطية كانت مسؤولة عن السكان القوط، والطبقة النبيلة الرومانية تمارس سلطاتها على السكان الرومان، بينما كان الملك القوطي وموظفوه الكبار يقررون السياسة العامة للجميع.  
وكان مُلاك الأراضي الرومان والقوط، وكما هو الحال بالنسبة إلى الملك وكبار موظفيه أيضاً، يشرفون على مزارعهم بواسطة الوكلاء ومديري المال في مقاطعاتهم .
وبصورة عامة فإن أفراد هذه الطبقة النبيلة كانوا أغنياء جداً، بنوا ثروتهم على حساب الطبقات الفقيرة المعدمة الأخرى، وقد أفلح بعضهم في الاحتفاظ بثروته حتى بعد الفتح العربي الإسلامي .
كانت المسيحية هي ديانة الغالبية العظمى من السكان.
 وكان الاسبان - الرومان يدينون بالمذهب الكاثوليكي، بينما كان القوط الغربيون قد اعتنقوا المذهب الآريوسي، الذي يقول بطبيعة المسيح البشرية، منذ سنة 377 م .

وقد عمل القوط الغربيون، منذ أيامهم الأولى في إسبانيا حتى تحولهم إلى الكاثوليكية في عهد ريكاريد Reccared (586 - 601 م)، على الفصل الكامل بين السكان القوط والاسبان الرومان، فكان أبناء كل طائفة يقيمون شعائرهم بحرية تامة بمساعدة رجال الدين التابعين لملتهم، وفي كنائسهم الخاصة .
وقد تبين للملك ريكاريد أنه لا صلاح لدولة القوط في إسبانيا ما لم تتخلّ عن الآرية وتعتنق مذهب الغالبية من سكان البلاد.

وهكذا فقد أعلن في مجمع طليطلة الديني سنة 587 م تخليه عن الآرية واعتناقه، هو وأهل بيته، للمذهب الكاثوليكي، وتبعه في هذا الأمراء وكبار رجال المملكة .
وهكذا توحدت الكنيسة الاسبانية تحت ظل الملكية القوطية. وأعقب هذا التحول إلى الكاثوليكية اتخاذ اللغة اللاتينية لغة رسمية في البلاد، وتوثقت العلاقة بالبابوية مما شجع البابوات على بسط نفوذهم الديني والسياسي على إسبانيا. وأصبحت طليطلة أسقفية يقيم فيها أسقف كبير يمثل البابا.
 وقد أيد السكان الاسبان الرومان هذا الإجراء، ولم تتخل إسبانيا عن الكاثوليكية بعد هذا التاريخ.
 وكانت هذه الخطوة عاملاً فعالاً لامتزاج الشعبين القوطي والآيبيري الروماني، ولكن هذا الامتزاج لم يتم بشكل كامل بسبب حرص القوط على اعتبار أنفسهم الشعب الحاكم المتميز، مما كان له أثر بعيد على مصير دولة القوط في إسبانيا.

وبالإضافة إلى المسيحيين كان ما يزال هناك عدد لا بأس به من السكان الوثنيين في شبه الجزيرة. وتشير التشريعات المتتالية الصادرة عن مجالس الكنيسة وملوك القوط إلى مدى الانتشار الواسع للوثنية، والكهانة، والعرافة، والسحر في البلاد.
وكانت هذه الممارسات قد ترسخت في معظم أرجاء إسبانيا تقريباً، وانتعشت إلى الحد الذي دفع مجلس طليطلة الثالث (589 م) أن يقرر بأنه يتوجب على كل أسقف بالتعاون مع القاضي المحلي أن يحقق في انتشار الوثنية في منطقته، ويعمل على مكافحتها . 
وكان الباسك Basques أو البشكنس، حسبما تسميهم المصادر العربية، من جملة الجماعات الوثنية التي تعيش في منطقة الشمال الشرقي المتاخمة لجبال ألبرت. 
وقد فشل الأساقفة والملوك القوط في زعزعتهم عن الوثنية أو إخضاعهم طيلة العهد القوطي. ولا يعرف لحد الآن الأصل الحقيقي لهؤلاء الباسك، ولكنهم ربما كانوا من بقايا القبائل التي سكنت منطقة جبال ألبرت في عصور ما قبل التاريخ .
 ولقد كان هؤلاء السكان الجبليون متمرسين على القتال والتمرد على ملوك القوط المختلفين، وظلوا مصدراً للقلاقل والاضطرابات طيلة العهد القوطي والعهود العربية الإسلامية اللاحقة. بل إن انتفاضاتهم ومطالبتهم المستمرة من أجل الاستقلال أو على الأقل الحكم الذاتي، ما تزال تعكر صفو الحكومات الاسبانية المختلفة حتى الوقت الحاضر.
لقد شكل اليهود عنصراً مهماً آخر من عناصر السكان في مملكة القوط الغربيين.
ويعود تاريخ استيطانهم في شبه الجزيرة إلى زمن بعيد جداً . وكانوا ينتشرون في مناطق عديدة من البلاد، لكنهم تركزوا بالدرجة الأولى في المراكز الحضرية المتقدمة، مثل العاصمة طليطلة، وفي مناطق الجنوب، وعلى طول ساحل البحر المتوسط في شرق إسبانيا.
وتختلف حالة اليهود الاقتصادية، وطرائقهم في الحياة في إسبانيا اختلافاً كبيراً. فمنهم من كان يعمل بالتجارة داخل البلاد وخارجها، بينما كان الآخرون فقراء لا يمتلكون أية ممتلكات .
 ويشير بعض المؤرخين إلى أن ملكية الأرض كانت الأساس الذي تقوم عليه معيشة بعض اليهود في إسبانيا، فكان هؤلاء يعيشون في قرى ويزرعون أراضيهم بأيديهم، بينما تولى آخرون الإشراف على المزارع التي يمتلكها المسيحيون.
ولكن يبدو من التشريعات الكثيرة التي تخص اليهود في إسبانيا، أن فعالياتهم التجارية، كانت مهمة بقدر أهمية نشاطهم الزراعي.
لم يكن وضع اليهود في ظل القوط الغربيين حسناً، فقد ضُيّق عليهم وعوملوا معاملة غير جيدة من قبل ملوك القوط المختلفين. ويعد الملك سسبت 
Sisebut (612 - 621 م) بنظر العديد من المؤرخين، الملك القوطي الأول الذي ابتدأ بوضع القيود على اليهود.
ولكن هذا الأمر يرجع في الحقيقة إلى عهود تسبق الحقبة التي حكم فيها هذا الملك. فهناك تشريعات معادية لليهود منذ عهد الملك ألاريك الثاني Alaric II (484 - 507 م)، .
 وكذلك نصت قرارات مجلس طليطلة الثالث (587 م) على إكراه اليهود على اعتناق المسيحية، وحرّمت  على أي يهودي أن يشتري عبداً مسيحياً.
ولقد ظل هذا التشريع سارياً، وأعيد تطبيقه من قبل ملوك القوط المتعاقبين، كما أُيِّد وعُزِّز من قبل مجلس الكنيسة إلى نهاية العهد القوطي.

وجُرد اليهود من قبل الملك سسبت من العبيد والمستأجرين، ولهذا أصبح من الصعب عليهم أن يزرعوا أراضيهم، أو أن يمتلكوا المزارع الكبيرة. وفي عهد الملك ايروج Erwig (680 - 687 م) أبعد اليهود عن كل وظائف الدولة، وعن تولي المزارع الكبيرة. وحُرّم عليهم وعلى عبيدهم أن يعملوا في حقولهم أيام الآحاد والعطل الدينية المسيحيّة .

ولكن ذروة التضييق على النشاط الاقتصادي لليهود وصلت غايتها في عهد الملك أخيكا Egica (687 - 702 م)، فقد كانت تشريعاته تهدف إلى شل القدرة الاقتصادية لليهود، والحد من قابليتهم في الحصول على المعيشة. لذلك فقد أجبروا على أن يبيعوا إلى خزينة الدولة، وبسعر محدد، عبيدهم، وأية ممتلكات سبق وأن اشتروها من المسيحيين. يضاف إلى ذلك، أنهم منعوا من مزاولة التجارة على مختلف أشكالها، أو أن يتاجروا فيما وراء البحار .
ولا تتوافر لدينا معلومات عن الدوافع الحقيقية المختفية وراء هذا التضييق، أو لماذا مُنع اليهود من ممارسة أي  نوع من أنواع التجارة.
ولكن من المحتمل جداً أنه كان بسبب اختلاف عقيدتهم وتعاطيهم الربا، أو بسبب تعاليهم على أبناء الديانات الأخرى، وانغلاقهم على أنفسهم، واستغلالهم لغيرهم من الناحية الاقتصادية. وربما كان لتآمرهم السياسي أيضاً أثر كبير على تشريع بعض القوانين المعادية لهم. وقد استطاع اليهود التخلص من هذه  القوانين بسبب دفعهم للرشوة إلى النبلاء ورجال الدين .
لكنهم مع هذا تأثروا إلى حد كبير، مما دفع العديد منهم إلى الالتجاء إلى شمال أفريقيا، وغالة في جنوب فرنسا، كما قام بعضهم بالاشتراك في بعض الحركات المناوئة للسلطة. وقد تعرض اليهود في عهد الملك أخيكا إلى الاتهام بالتآمر مع يهود من خارج البلاد للعمل ضد المسيحيين في إسبانيا .
وقد يكون هذا الاتهام صحيحاً، ولكن لا تتوافر أدلة عليه سوى خطبة الملك أخيكا التي ألقاها أمام مجلس طليطلة السابع عشر (9 تشرين الثاني سنة 694 م) عندما أشار إلى هذه "المؤامرة" لأول مرة.

ويرى بعض المؤرخين المحدثين، أن هذا الاتهام ما هو إلا محض خيال أو اختراع من قبل الملك حتى يبرر إجراءاته ضد اليهود. 
ولكن هناك من يعتقد بصحة هذه الحادثة، ويعدها حقيقة تاريخية، بل اعتقد بعضهم أن اليهود المقصودين بالتآمر من خارج البلاد هم من شمال أفريقيا. ومن البربر بالذات . 
كما ذهب آخرون إلى أبعد من ذلك -ربما بسبب تعاون اليهود فيما بعد مع المسلمين زمن الفتح- فذكروا بأن اليهود كانوا يتآمرون من أجل تسليم إسبانيا إلى العرب.
 وبطبيعة الحال، لا يمكن تصديق مثل هذا الافتراض، لأن العرب في ذلك الوقت كانوا بعيدين عن إسبانيا، وكانت فتوحاتهم مركزة في المناطق المجاورة للقيروان.
إن عدم التكافل الاجتماعي الذي كان يسود في دولة القوط الغربيين، والتضييق الذي لحق باليهود، والظروف التعيسة التي كان يعيش في ظلها العبيد والعديد من أفراد الطبقة العامة، أدت إلى تفكك المجتمع وانهياره.
يضاف إلى ذلك أن حالة العصيان والمؤامرات المستمرة التي كان يقوم بها النبلاء من أجل الوصول إلى العرش، أو الانسلاخ عن المملكة والحصول على الاستقلال، أنهكت البلاد، وأوصلتها إلى حالة يرثى لها من  التردي والضعف.
ولقد حدث قبل الفتح العربي الإسلامي لإسبانيا بسنة واحدة تقريباً، أقوى وأقسى تنافس على السلطة في البلاد، مما زاد في حالة الضعف والتفكك، وسهل أمر القضاء على دولة القوط الغربيين.
عصر الملك غيطشة وتفرق كلمة القوط:
ابتدأت الأزمة منذ أيام الملك غيطشة 
Witiza (702 - 710 م)، الذي حاول أن يصلح الأمور ويخفف من التأثير السيء الذي تركه أبوه أخيكا، فمال إلى إنصاف الناس من استبداد نبلاء القوط، وأحب في آخر أيامه أن يرفع القيود عن اليهود، فكرهه النبلاء ورجال الدين، الذين أبعدهم عن نفسه، وحرمهم من بعض امتيازاتهم، وفرق شملهم.
 فأخذ النبلاء يثورون عليه في نواحي البلاد المختلفة، وتآمر عليه أهله، واستطاعت زوجته أن ترغمه على تعيين ابنه الصبي وقله (أخيلا Achila) حاكماً على طركونة وسبتمانيا.
وكان هذا التعيين حافزاً للنبلاء وكبار القوط إلى مضاعفة العمل للقضاء على غيطشة ودولته. وفي هذه الأثناء توفي غيطشة في حدود سنة 710 م، والبلد منشق على نفسه مفرق بين رجال الدين وكبار النبلاء الطامعين. وكان أفراد البيت المالك أنفسهم من أكثر الناس انقساماً.
 فقد ترك غيطشة أرملة، وثلاثة بنين، هم أخيلا، وألمند، وأرطباس، وأخين كان أحدهما أسقفاً لأشبيلية يدعى أبة Oppa، والآخر وصياً على أخيلا الذي كان مرشحاً لوراثة العرش بعد أبيه. ولكن كبار القوط لم يرغبوا في الخضوع لصبي مثلا أخيلا، هذا بالإضافة إلى عدائهم لأبيه، وتخوفهم من استبداد الوصي بالحكم (41). فامتنعوا عن طاعة أخيلا، واستقل بعضهم في الأطراف والنواحي، وسادت حالة الفوضى والارتباك في البلاد، استطاع على أثرها كبار القوط وأعيانهم في طليطلة أن يوحدوا جهودهم ضد أخيلا وعمه الوصي عليه، وأن يعهدوا بالعرش إلى أحدهم ويدعى رودريكو أو لذريق Roderic (42) .

وما يزال أصل لذريق مختلفاً فيه، فتذكر إحدى المصادر اللاتينية على أنه كان سليل بيت أحد ملوك القوط السابقين.
بينما يذكر المؤرخون العرب أنه كانا رجلاً شجاعاً، ولكنه لا ينتمي إلى بيت الملوك، وأنه كان قائداً وفارساً .
 ونظراً للظروف التي تولى فيها هذا الملك، فقد كان في حاجة ماسة إلى الأموال. فابتدأ حكمه بأن حاول الاستيلاء على خزائن أسلافه الملوك من كنيستي سان بيدرو San Pedro وسان بابلو San Pablo في طليطلة.
لم تكن مشكلة لذريق الوحيدة هي الحاجة إلى المال، بل كان عليه أيضاً أن يجابه انتشار الفوضى والانقسام  والفساد في المملكة.
 وكانت الثورات، وحركات التمرد ما تزال تعكر صفو البلاد، وبشكل خاص في منطقة الباسك، وكان العبيد يهربون في كل مناطق البلاد.
ويدل هذا على ضعف القوط المتأصل، وإلى الحد الذي وصل إليه تدهور قوتهم، لأن الغالبية العظمى من الجيش القوطي في أواخر القرن السابع الميلادي كانت تتألف من العبيد المجندين.
 ولهذا فليس من الصعب على المرء أن يتخيل مصير هذا الملك ومملكة القوط الغربيين عامة، عندما كان عليهم أن يجابهوا حماسة العرب والمسلمين المتدفقة، وكلمتهم الموحدة في سبيل نشر مبادئ الحق والعدل وتحرير الشعوب من الظلم والفساد.

كيف اختير أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين؟

كيف اختير أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين؟

وكيف تم؟
وما هي خطواته وما هي تبعاته؟
ماذا حدث في سقيفة بني ساعدة؟
وماذا أثير حولها من شبهات من المستشرقين وأحبابهم؟ 
ولماذا هذا الحدث بالذات؟

وأجيب عن هذا السؤال بنقاط خمس:

أولاً: دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي y أجمعين، تعتبر من أهم الأمور التي يجب أن يحرص عليها المسلمين، ويجب أن يحرصوا على دراستها دراسة وافية، مستفيضة شاملة لكل نقاط حياتهم، فهي فترة من أهم فترات التاريخ الإسلامي، بل هي أهمها على الإطلاق بعد فترة الرسول r، لماذا؟

لأن هذه الفترة تعتبر جزءًا من التشريع الخاص بالمسلمين، وقد يستغرب البعض أن هناك تشريعًا بعد رسول الله r، ولكن الواقع أن كثيرًا من الأمور جدت على حياة المسلمين بعد وفاة الرسول r، وكانت هذه الأمور تحتاج إلى فقهٍ واجتهاد، فاجتهد فيها هؤلاء الأخيار واختاروا آراءً سديدة ساروا عليها، وسارت الأمة معهم، فكانت تشريعًا للمسلمين.

حدثت أمورٌ ما كان لها شبيه في حياة الرسول r منها هذا الحدث الذي نحن بصدده وهو: اختيار خليفة للمسلمين.

ومنها فتوحات عظام في أراض شاسعة، وما تبع ذلك من أمور.

ومنها أمور فقهية، ومنها شبهات أثيرت فدافعوا عنها.

فترة جليلة حكم فيها خير المسلمين على الإطلاق، وكان المحكومون هم خير أهل الأرض بعد الأنبياء.

من هنا نستطيع أن نفهم حديث رسول الله r الذي رواه الترمذي رحمه الله، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه أيضا أبو داود رحمه الله عن العرباض بن سارية t قال:

وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ r مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا. قال: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشُ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا".

وصدقت يا رسول الله، ونحن الآن نعيش في هذا الزمن الذي فيه اختلاف كثير، تشعبت بنا الطرق، وكثرت عندنا المناهج، وتعددت أمامنا الأساليب، فماذا نفعل؟

في أي طريق نسير؟

وأي المناهج نتبع؟

وأي الأساليب نختار؟

انظر إلى نصيحة رسول الله r: "وَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشُ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ (بالأضراس) وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ".

عندما تتشعب الطرق عليك بسنة رسول الله r.

هذا بالطبع مفهوم، لكن لماذا يضيف r:

وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ؟

إذا كان الخلفاء الراشدون سيعيشون حياة ليس فيها اختلاف عن حياة الرسول r، فإنه من الطبيعي والمنطقي أن يقلدوا الرسول r في كل شيء، ولا يبقى مجال لاجتهادهم، ومن ثم لا يقول رسول الله r: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين.

لكن الواقع أن الأمور التي جدت على الأمة في عهدهم وضعت أشياء كثيرة كانت تحتاج إلى عقول ذكية، وقلوب طاهرة كعقول وقلوب الخلفاء الراشدين، فأصبح ما يفعلون ليس مقبولاً فقط، بل شَرْع للأمة إلى يوم الدين.

خلاصة هذه النقطة أن دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين جزء من الدين والشرع، لا بد أن يعطي له المسلمون اهتمامًا خاصًا, وقصة الاستخلاف هي أول الأحداث في عهد الخلفاء؛ ولذلك سنتحدث عنها، ثم يليها إن شاء الله الحديث عن الأحداث الأخرى.

ثانيًا: الذي يهمنا في قصة استخلاف أبي بكر الصديق t، أننا سنستخلص أحكامًا وأمورًا هامة من هذه الحادثة تفيد جدًّا في بناء الأمة الإسلامية بناءً صحيحا:

ما هو معنى الشورى؟

وكيف التصرف عند الاختلاف؟

وما هي طرق عرض وجهات النظر؟

ولماذا يختار رجلٌ دون آخرٍ لإمارة ما؟

وأمورٌ أخرى كثيرة سيتم مناقشتها في مكانها إن شاء الله.

ثالثًا: إن هذا الحدث الهام هو بداية حياة المسلمين بدون رسول الله r.

ولا شك أن هذا أمر يدعو إلى الاهتمام، فغياب رسول الله r أمرُ صعب، والأصعب من ذلك غياب الوحي وانقطاعه عن الأرض إلى يوم القيامة، يظهر هذا واضحًا من قصة أم أيمن:

روى مسلم عن أنس t قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة الرسول r: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يَزُورُهَا. فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ r؟ فَقَالَتْ: إِنِّي لا أَبْكِي أَنِّي لا أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ r، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيِ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ. فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ مَعَهَا.

الصحابة كانوا يعيشون الوحي، وتخيل معي الأمر الغريب، كل يوم أو يومين يحدثهم رسول الله r بما يريده الله U منهم.

الله يقول لكم كذا.

الله ينهاكم عن كذا.

الله غفر لفلان.

الله يحب فلان.

الله يبشر فلان بالجنة.

الله يوضح لكم سبب النصر في هذه الغزوة، والله يوضح لكم سبب الهزيمة في غزوة أخرى.

إذا اختلفوا نزل الوحي يؤيد رأيًا على رأي، ويعدل المسار ويصحح الوجهة.

وفجأة انقطع الوحي بموت الرسول r، وانقطعت العلاقة التفاعلية بين الصحابة وبين الله U، وأصبح عليهم أن يجتهدوا في أن يعرفوا:

أين غضب الله؟

وأين رضاه؟

إذا اختلفوا عليهم أن يختاروا رأيا دون انتظار التعديل الإلهي، نعم وضع الله ورسوله لهم قواعد محددة للسير عليها، ولكن شتان بين الموقف قبل انقطاع الوحي، والموقف بعد انقطاع الوحي.

وحادثة استخلاف أبي بكر الصديق هي أولى الحوادث التي تمت في هذا الجو، ولا بد أن في دراستها عبرًا لا تحصى، وفوائد لا تقدر بثمن.

رابعًا: وتأتي أهمية حادث الاستخلاف أيضًا في أنه تبعه أحداث جسام في حياة المسلمين ما كانت لتتم لولا أن اختار المسلمون أبا بكر الصديق t ليكون خليفة للمسلمين، فالرجل له طابع يختلف عن كثير من الصحابة، سنتعرف عليه إن شاء الله في هذه السطور، وستشعر كم كان الله رحيمًا بالمؤمنين، ومسدِدًا لخطاهم لَمّا يسر لهم اختيار هذا الصحابي الجليل لهذه المهمة الثقيلة، مهمة خلافة المسلمين بعد رسول الله r.

على سبيل المثال:
حرب الردة، فلولا أبو بكر الصديق لما كانت تلك الحروب الضارية الدامية الواسعة النطاق.

أيضا الفتوحات الإسلامية العجيبة لدولة فارس والروم، أحداث من العجب أن تتكرر على هذه الصورة، إلا بقيادة مثل قيادة أبي بكر الصديق، قد يكون من السهل على من تبعه من خلفاء أن يقوموا بالفتوحات من بعده؛ لأنه فتح لهم الطريق، لكن يبقى الأثر أعمق، والأجر أعظم لمن بدأ بسَنّ سُنّة حسنة تبعه فيها الآخرون.

حادث الاستخلاف هو النقطة التي انطلقت منها الأمة إلى هذه الأحداث الجسام، فلابد أن دراسة هذه الفترة ستلقي بظلال هامة على هذه الأحداث العجيبة.

خامسًا: ومن أهمية دراسة هذا الحدث الخطير أيضًا أنه كثر طعن المستشرقين وأتباعهم في كل من شارك في هذه العملية الهامة.

لم يتركوا أحدًا، ضربوا كل الرموز الإسلامية العظيمة، وأظهروا الأمر على أسوأ ما يكون، طعنوا في أبي بكر، وعمر، وأبي عبيدة بن الجراح، وعائشة، وسعد بن عبادة، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، والسيدة فاطمة، بل طعنوا في علي بن أبي طالب في صورة الثناء عليه، وذموه في صورة المدح، طعنوا في العباس بن المطلب عم رسول الله r.

خلاصة الأمر أنهم أخرجوا لنا صورة مهلهلة قبيحة لخير الأجيال، وخير القرون.

فإن كان هم كذلك، فأي خير يرتجي مَن جاء مِن بعدهم؟

وأخطر من ذلك: إن كانوا هم كذلك فكيف نأخذ ديننا عن طريقهم؟

وكيف نقبل باجتهادهم؟

فالمستشرقون بذلك يضربون الدين في عمقه ويدمرون الإسلام في أصوله.

هذا الكلام، ليس تاريخًا قديمًا فعله بعض المستشرقين في السابق، والحال الآن غير ذلك، بل هذا الكلام ما زال يتردد في أفواه بعض من يدرسون التاريخ في الجامعات المتخصصة سواء في الجامعات المحلية، أو الجامعات الغربية التي تفتح فروعًا في البلاد الإسلامية، وبالطبع يردد أيضًا بكثرة في الجامعات الغربية في خارج الأقطار الإسلامية لتشويه صورة الإسلام والمسلمين.

هنا وجب علينا أن ندفع هذه الشبهات، وأن نوضح للناس الصورة الحقيقية للأحداث التي تمت بخصوص هذه القصة، قصة استخلاف أبي بكر الصديق t، وعن صحابة الرسول r أجمعين.

لهذه الأسباب مجتمعة فإننا نستعين بالله في شرح هذا الحدث، وسنتبعه بغيره إن شاء الله، فتاريخ المسلمين بحق بحرٌ لا ساحل له.

ولكي نفهم هذا الحدث الكبير، ولكي نستوعب اختيار أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين، لا بد أن ندرس في البداية شخصية هذا الرجل النادر.

لا بد أن نعرض لطرف بسيط من حياته.

نحن لا نستطيع أن نفتح الباب على مصراعيه لرؤية شخصية هذا الرجل الفذ العملاق، نحن فقط نلقي نظرةً على استحياء لنعرف: ما هذا؟

ما هي مفاتيح الشخصية عنده؟

ما سر هذه الرؤية الواضحة عنده في كل الأمور؟

ما سر هذه الدرجة الرفيعة التي نالها في دنياه وآخرته؟

أبو بكر الصديق t شخصية عجيبة جمعت بين طياتها الرقة والشدة، والرحمة والقوة، والأناة والسرعة، والتواضع والعظمة، والبساطة والفطنة.

شخصية عجيبة، جمعت كل ذلك، وأضعافه من فضائل الأخلاق والطباع، وهبه الله حلاوة المنطق، وطلاقة اللسان، وقوة الحجة، وسداد الرأي، ونفاذ البصيرة، وسعة الأفق، وبعد النظرة، وصلابة العزيمة، كل هذا وغيره، وليس بنبي، إن هذا لشيء عجيب.

فشخصية أبي بكر الصديق t شخصية عجيبة ما تكررت في التاريخ.

انظر تقييم علي بن أبي طالب لهذه الشخصية، أخرج البخاري عن محمد بن علي بن أبي طالب قال: قلت لأبي: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ r؟ قال: أَبُو بَكْر. قلت: ثُمَّ مَنْ؟ قال: عُمَرُ. وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ، فَقُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قال: مَا أَنَا إِلاَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وهذا تواضع من علي بن أبي طالب.

تُرى كيف كانت شخصية هذا الرجل الذي هو خير الناس بعد رسول الله r؟

قال رسول الله r في جزء من حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري t: "إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً غَيْرَ رَبِّي لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةَ الإِسْلامِ وَمَوَدَّتَه"ُ.

فهذه مقامات عالية جدًّا، فأبو بكر الصديق كما في الحديث من أَمَنّ الناس على رسول الله r؛ أي أكثرهم مِنّة وفضلاً.

وهذا رسول الله r يتخذ الله خليلاً ولولا ذلك لاتخذ أبا بكر؛ أي أنه لو اصطفى من البشر خليلاً لكان أبو بكر t، ولكن أخوة الإسلام.

كيف يكون هذا الرجل الذي ظفر بتلك المنزلة الراقية؟

وكيف وصل إليها؟

لا نريد دراسة أكاديمية لحياة أبي بكر الصديق، ولكن أحب أن نبحث في مفاتيح شخصية هذا الرجل العظيم، كيف تسهل عليه فعل كل هذا الخير؟

وكيف حافظ عليه؟

ثم هل من سبيل بعد معرفة هذا أن نقلده فيما فعل، فنصل إلى ما إليه وصل؟

- بتحليل شخصية أبي بكر الصديق t وأرضاه، وجدت أنه يتميز عن غيره في جوانب كثيرة من أهمها خمسة أمور، من هذه الأمور الخمسة تنبثق معظم صفات الصديق t وأرضاه:

- حب رسول الله r.

- رقة القلب، ولين الجانب.

- السبق والحسم.

- إنكار الذات.

- الثبات.

وهذه الصفات الخمسة هي التي سنتناولها في الجزء الأول من البحث، بإذن الله.

أما في الجزء الثاني، فسنتوقف عند أحداث السقيفة، لكي نتناول بشيء من التفصيل:

- أحداث يوم السقيفة.

- شروط الاستخلاف.

- استخلاف الصديق بين التلميح والتصريح.

- شبهات حول استخلاف الصديق.

ثم ننتهي بعد ذلك إلى دروس من حياة الصديق .t

أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا..

حبه الصادق لرسول الله  r:

أحبه حبًّا خالصًا خالط لحمه ودماءه وعظامه وروحه حتى أصبح جزءًا لا يتجزأ من تكوينه، والصحابة جميعًا أحبوا رسول الله r حبًّا عظيمًا فريدًا، ولكن ليس كحب أبي بكر الصديق t.

هذا الحب الذي فاق حب المال والولد والأهل والبلد، بل فاق حب الدنيا جميعها.

وحب رسول الله r من مكملات الإيمان، فقد روى البخاري ومسلم رحمهما الله عن أنس t قال: قال رسول الله r: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ".

وأبو بكر الصديق t أشد الناس إيمانًا، فهو إذن أشد الناس حبًّا للرسول r، ففي حديث رسول الله r في مسند الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ r ذَاتَ غَدَاةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: "رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ، فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ، فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ".

هذا الحب المتناهي، له دليل من كل موقف من مواقف السيرة تقريبًا، ولو تتبعت رحلة الصديق t مع رسول الله r لرأيت حبًّا قلما تكرر في التاريخ.

وتعالوا نقلب الصفحات في حادث واحد فقط هو حادث الهجرة إلى المدينة المنورة:

- لما جاء رسول الله r إلى بيت أبي بكر في ساعة لم يكن يأتيهم فيها، أول ما قاله أبو بكر قال: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.

- ولما أخبره رسول الله r بأمر الهجرة قال أبو بكر الصديق بلهفة: الصُّحْبَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال رسول الله r: "الصُّحْبَةُ".

فماذا كان رد فعل أبي بكر لما علم أنه سيصاحب رسول الله r؟

أترك لكم السيدة عائشة تصور هذا الحدث: قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ.

يا الله، يبكي من الفرح للصحبة مع رسول الله r، مع أن هذه الصحبة الخطيرة سيكون فيها ضياع النفس، فمكة كلها تطارده r، ويكون فيها ضياع المال، ويكون فيها ضياع الأهل، ويكون فيها ترك البلد، لكن ما دامت في صحبة رسول الله r، فهذا أمر يبكي من الفرح لأجله.

- لقطة أخرى من لقطات الهجرة:

عند الوصول إلى غار ثور وهي لقطة (بدون تعليق):

ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شر أصابني دونك. فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبًا، فشق إزاره وسدها به، وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله r: ادخل. فدخل رسول الله r، ووضع رأسه في حجره ونام، فلُدغ أبو بكر في رجله من الجُحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله r، فسقطت دمعة على وجه رسول الله r فقال: "مَا لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟" قال: لدغت فداك أبي وأمي. فتفل رسول الله r فذهب ما يجده.

- لقطة أخرى من لقطات الهجرة: لقطة يحكيها أبو بكر الصديق كما أوردها البخاري في صحيحه، يقول: ارتحلنا من مكة فأحيينا، أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه؟ فإذا صخرة أتيتها، فنظرت بقية ظل، فسويته بيدي، ثم فرشت للنبي r فيه، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله.

فاضطجع النبي r، ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحدًا؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا فسألته: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من قريش سماه فعرفته، فقلت هل في غنمك من لبن قال: نعم. قلت: فهل أنت حالب لبنًا؟ قال: نعم.

فأمرته فاعتقل شاه من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا ضرب إحدى كفيه بالأخرى فحلب له كثبة من لبن، ومعي دواة حملتها للنبي r يرتوي منها يشرب ويتوضأ. فأتيت النبي r، فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ فصببت الماء على اللبن حتى برد أسفله فقلت: اشرب يا رسول الله. فشرب حتى رضيت، ثم قال: "أَلَمْ يِأْنِ الرَّحِيلُ؟" قلت: بلى. فارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشة على فرس، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله. فقال: "لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا".

- لقطة أخيرة من لقطات الهجرة وليست الأخيرة من لقطات أبي بكر الصديق t، أخرج الحاكم في مستدركه عن عمر بن الخطاب t قال: خرج رسول الله r إلى الغار، ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله r، فسأله، فقال له: أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك. فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ لَوْ شَيْءٌ أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟". قال: نعم، والذي بعثك بالحق.

هل كان هذا الحب من طرف واحد؟

كلا والله، يقول رسول الله r في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة t: "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِِنْهَا اخْتَلَفَ".

فلأن أبو بكر الصديق أحب رسول الله r هذا الحب الذي فاق كل حب، فإن رسول الله r قد رفع مكانته في قلبه فوق مكانة غيره.

روى الشيخان عن عمرو بن العاص t أن رسول الله r بعثه على جيش ذات السلاسل، يقول: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عَائِشَةُ". قلت: من الرجال؟ قال: "أَبُوهَا". قلت: ثم من؟ قال: "عُمَرُ". فعد رجالاً.

سؤال: هل كان يُرْغِمُ أبو بكر الصديق t نفسه على هذا الحب؟ هل كان يشعر بألم في صدره عندما يقدم حب رسول الله r على حب ماله أو ولده أو عشيرته أو تجارته أو بلده؟

أبدا والله، لقد انتقل الصديق من مرحلة مجاهدة النفس لفعل الخيرات إلى مرحلة التمتع، والتلذذ بفعل الخيرات، انتقل إلى مرحلة حلاوة الإيمان يذوقها في قلبه وعقله وكل كيانه.

يقول رسول الله r في الحديث الذي رواه الشيخان عن أنس t: "ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ".

هذا الحب الفريد لرسول الله r قاد إلى أمرين عظيمين يفسران كثيرًا من أعمال الصديق t الخالدة في التاريخ:

اليقين الكامل بصدق ما قال رسول الله r :

اليقين الكامل بصدق ما قال رسول الله r دون جدال أو نقاشٍ أو تنطع. ما نهى عنه ينتهي، وما أمر به يأتي منه ما استطاع، ونجد مصداق ذلك في أحداث كثيرة منها:

- عُرِض الإسلام على أبي بكر، وأن يدخل في دين جديد ما سمع به من قبل، وأن يترك دين الآباء والأجداد، وأن يخالف الناس أجمعين، ويتبع رجلاً واحدًا، أمر عجيب لا بد أن يلتفت إليه.

يقول رسول الله r: "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلامِ إِلا كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلا أَبَا بَكْرٍ مَا عَتم (كف بعد المضي فيه) عَنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدَ فِيهِ". يقين كامل أن هذا الرجل r لا يكذب.

- حادث الإسراء:

أخرج الحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء المشركون إلى أبي بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس. وهذا أمر عجيب جدًّا، وَضَعْ نفسك مكان أبي بكر الصديق، فالمسافة بين مكة والقدس أكثر من مائة يوم للذهاب فقط، فكيف يذهب، ويعود في ليلة؟! قال: أوَقال ذلك؟ قالوا: نعم. فقال: لقد صدق. دون أن يذهب إلى رسول الله ليستوثق منه، ثم يعطي التبرير لمن يستمع له، قال: إني لأصدقه بأبعد من ذلك بخبر السماء غدوة وروحة.

ويقال إنه لأجل هذه الحادثة سمي أبا بكر الصديق، والثابت أن رسول الله r هو الذي سمى أبا بكر بالصديق.

روى البخاري عن أنس t أن النبي r صعد أحد، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: "اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ".

بل في رواية الحاكم في المستدرك عن النزال بن سبرة رحمه الله أن الذي سماه بذلك هو الله U، قال النزال بن سبرة: قلنا لعلي: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن أبي بكر. قال: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل، وعلى لسان محمد r، وكان خليفة رسول الله r، رضيه لديننا، فرضيناه لدنيانا. ويقول الله U: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} [الزُّمر: 33]. قال علي بن أبي طالب t: الذي جاء بالصدق محمد r، والذي صدق به هو أبو بكر الصديق t.

كما أننا نجد أن حياة الصديق t ما هي إلا تصديق مستمرٌ متصلٌ لرسول الله r.

- موقفه بعد صلح الحديبية، والموقف في صلح الحديبية كان شديد الصعوبة، فالرسول r كان قد رأى في منامه أنه يدخل المسجد الحرام، ويعتمر الناس، ثم لم يحدث هذا في ذلك العام، ثم عقدت معاهدة بنودها في الظاهر مجحفة وظالمة للمسلمين، ثم طبقت المعاهدة على أبي جندل بن سهيل بن عمرو مباشرة بعد إتمام المعاهدة، فرده رسول الله r إلى المشركين لما جاءه مسلمًا في مشهدٍ مأساوي مؤثر.

كل هذه الأمور وغيرها أثرت كثيرًا في نفسية الصحابة بِهَمٍّ عظيم، وغَمٍّ لا يوصف، وكان من أشدهم غمًّا وهمًّا عمر بن الخطاب t، انظر ماذا فعل عمر على عظم قدره، وفقهه، وماذا فعل الصديق رضي الله عنهما. أما عمر بن الخطاب t فقد ذهب إلى رسول الله r والغيظ يملأ قلبه فقال: أتيت النبي r فقلت: يا رسول الله، ألست نبي الله حقًّا؟ وهو لا يشك في ذلك قطعًا، ولكنه يبدي استغرابه مما حدث. قال: "بَلَى". قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: "بَلَى". قلت: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال: "بَلَى". قلت: علام نعطي الدنية في ديننا إذن؟

وعمر هنا ليس قليل الإيمان، بل بالعكس يريد ما هو أشق على النفس، ولا يسأل التخفيف أو التغاضي، والرسول r كان من عادته أن يوضح، ويبين لكن هنا الرسول يربي على الاستسلام دون معرفة الأسباب، ودون معرفة الحكمة، ما دام الله قد أمر.

قال: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَهُوَ نَاصِرِي، وَلَسْتَ أَعْصِيهِ". قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: "بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟". قلت: لا. قال: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ.

والرسول r صابر جدًّا في حديث عمر؛ لأنه يعلم ما به من الغم ويعذره، وهذه درجة عالية جدًّا من درجات الإيمان وهي غليان القلب حمية للدين.

لكن تعال من الجانب الآخر وانظر إلى أبي بكر. قلت: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقًّا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: أيها الرجل، إنه لرسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى حق.

هنا يغضب الرجل الرقيق؛ لأنه شعر أنه في هذه التلميحات إشارة، ولو من بعيد إلى شك في وعد رسول الله r. قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، فأخبرك إنك تأتيه العام؟ قلت: لا.

ولعلنا نلاحظ التشابه الشديد بين ردود الصديق t عنه، وردود رسول الله r. قال: فإنك آتيه ومطوف به.
يقين تام، ليس فيه ذرة شك من كلام رسول الله، هذا هو الصديق t، فكان عمر يقول: "ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به".

- هذا اليقين أيضًا يفسر لنا موقفًا عجيبًا من مواقف الصديق t وهو موقف إعلان الحرب على الفرس، فور الانتهاء من حرب الردة، فهذا من أعجب مواقف التاريخ على الإطلاق، ولنحسبها بحساباتنا المادية البشرية:

- فالدولة دولة ناشئة لا تشتمل إلا على جزيرة العرب فقط.

- والدولة ليس لها تاريخ في الحروب النظامية، فهي مجموعة من القبائل جمعها رسول الله r منذ أعوام قلائل.

- والدولة خارجة من حرب أهلية طاحنة، هي حروب الردة الضارية، والتي ارتدت فيها كل جزيرة العرب باستثناء ثلاث مدن وقرية.

- والفرس دولة تقتسم العالم مع دولة الروم، أي أنها إحدى الدول العظمى في العالم.

- وتاريخ الفرس قديم في الحروب النظامية، وجيوش الفرس تجاوز الملايين.

- والجيش الإسلامي المعد لحرب الفرس لم يكن يتجاوز العشرة آلاف وصلوا إلى ثمانية عشر ألفًا عند اكتمال العدة، وهو عدد لا يمثل قوة مدينة واحدة من مدن الفرس.

كل هذا وغيره، ومع ذلك يأخذ هذا القرار العجيب بالتوجه لفتح هذه البلاد.

وحتى تفهم هذا القرار ارجع وادرس الموقف في ضوء اليقين الذي تحلى به الصديق t:

أولاً: رسول الله r قد بَشّر بغلبة هذا الدين بصفة عامة على كل الأمم، والأحاديث أكثر من أن تذكر في هذا المجال، ولكن على سبيل المثال ما جاء في صحيح مسلم عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا".

ثانيًا: ثم لقد سمع بشارة من رسول الله r أكثر تخصيصًا، فإن رسول الله r قال لمشركي قريش، وكان فيهم أبو جهل: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ كَلِمَةً إِنْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَا مَلَكْتُمْ بِهَا الْعَرَبَ، وَلانَتْ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ". فقال أبو جهل: ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها. قال: "تَقُولُونَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ". فصفقوا بأيديهم وقالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا وحدًا؟ إن أمرك لعجب.

وأبو بكر قد قال كلمة لا إله إلا الله وصدق بها وعمل بها وجيش أبي بكر كذلك، فلماذا لا ينصر؟ بل العجب كل العجب ألا ينصر.

ثالثًا: بل هو قد سمع بشارةً أكثر تخصيصًا أيضًا من تلك التي سبقت، فقد كان مع المسلمين في حفر الخندق في الأحزاب يوم اعترضت المسلمين صخرة كبيرة، فقام إليها رسول الله r وضربها، وكان مما قال: "اللّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ فَارِسَ وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الآنَ".

رابعًا: بل هو رأى بعينه وسمع بأذنه هو دون بقية الصحابة ما حدث في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة من أمر سراقة بن مالك، ورأى أقدام فرسه تسوخ في الرمال، ثم رسول الله r يقول لسراقة: "كَيْفَ بِكَ إِذَا لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى؟"

خامسًا: كما أنه t حضر مباحثات رسول الله r مع بني شيبان أيام مكة، ولما رفض بنو شيبان الدعوة الإسلامية؛ لأنهم اشترطوا شرطًا أن لا ينصروه إذا حارب الفرس، فإنهم ليست لهم طاقة بحرب الفرس، فماذا قال لهم رسول الله r قال: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ لَنْ تَلْبَثُوا إِلا قَلِيلا حَتَّى يُوَرِّثَكُمُ اللَّهُ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَيُفْرِشَكُمْ نِسَاءَهُمْ، أَتُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتُقَدِسُونَهُ؟", فقالوا: اللهم لك هذا.

سادسًا: بل أكثر من ذلك، فقد حدث من أبي بكر الصديق t ما يذهب العجب عندك حينما تعلمه، فإنه في أوائل الفترة المكية قد نزل القرآن الكريم بمقدمات سورة الروم وفيها:

{الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ} [الروم: 1, 4].

وكان هذا إخبار بما حدث من هزيمة الروم وبما سيحدث من انتصارهم لاحقًا على الفرس. ذهب أبو بكر يذكر ذلك للمشركين يغيظهم به، وقد كان المسلمون يفرحون لنصر الروم؛ لأنهم أهل كتاب، بينما يفرح المشركون لنصر الفرس؛ لأنهم وثنيون مثلهم. فقال أبو بكر: ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا. فصاح به أُبَي بن خلف الجمحي: كذبت يا أبا فصيل. فقال الصديق: أنت أكذب يا عدو الله. قالوا: هل لك أن نقامرك. فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين فمضت السبع، ولم يكن شيء، ففرح المشركون بذلك، فشق على المسلمين، فذكر ذلك للنبي r فقال: "مَا بِضْعِ سِنِينَ عِنْدَكُمْ؟". قالوا: دون العشر. قال: "اذْهَبْ فَزَايِدْهُمْ وَازْدَدْ سَنَتَيْنِ فِي الأَجَلِ". قال: فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس.

إذن هل يوقن الصديق بنصر النصارى على الفرس ولا يوقن بوعد رسول الله r بنصر المسلمين على الفرس وغيرهم؟ هذا والله أبدًا لا يكون.

كانت هذه بعض المواقف التي دلت على يقين الصديق t فيما قاله رسول الله r، يقينا تامًّا، لا يعتريه شك.

الاقتداء الكامل برسول الله r :

أما الأمر الثاني الذي قاده إليه حب رسول الله r فهو الاقتداء الكامل برسول الله r حتى وإن لم يدرك الحكمة، وهو يتمثل بقوله I: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

وأبو بكر الصديق t يحب الله U حبًّا لا يُقَدر، ويعلم أن الطريق الطبيعي لحب الله هو اتباع الرسول r الاتباع المطلق.

فإن علم الحكمة فبها ونعمت، وإن لم يعلمها فالعمل هو العمل بنفس الحماسة ونفس الطاقة.

كثير من الناس يعرضون أقوال الرسول r على عقولهم القاصرة، فإن وافقت موافقة من عقولهم فعلوها، وإن لم توافق عقولهم أو أهوائهم تركوها ونبذوها، بل قد يسخرون منها، أما أبو بكر فلم يكن من هذا النوع، أبو بكر الصديق t كان يقتدي برسوله r في كل صغيرة وكبيرة، حتى لتشعر أنه لا يفرق بين فرض ونافلة، التصاق شديد بسنة رسول الله r، وبطريقته ومنهجه، إذا كنت تريد أن تصل إلى ما وصل إليه أبو بكر وأمثاله y فاعلم أن قدر السنة عندهم كان عظيمًا جدًّا.

- ما معنى السُّنة؟
ليس المقصود بالسنة النوافل التي كان يؤديها رسول الله r, المقصود من السنة أنها الطريقة، المنهاج، السبيل الذي كان يسلكه في حياته كلها.

السنة هي طريقته في السلم والحرب، في الأمن والخوف، في الصحة والمرض، في السفر والإقامة، في السياسة والاقتصاد، في الاجتماع، وفي المعاملات، في كل وجه من أوجه الحياة.

ابتليت الأمة الآن بمن يقللون من شأن السنة ويكتفون -كما زعموا- بأوامر القرآن، ويتركون توجيه رسول الله r، وكأنه توجيه رجلٍ من الصالحين أو شيخ من الشيوخ، ونسوا أن له مقامًا لا يصل إليه أحد من البشر، فهو يتلقى عن رب العزة، ويصف لك ما فيه خير الدنيا، وخير الآخرة.

وقد تنبأ رسول الله هذه الكارثة وهي التقليل من شأن السنة، فقد روى أبو داود والترمذي أن رسول الله قال: "يُوشِكُ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ عَنِّي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ".

أي أنه سيكتفي بكتاب الله، وينكر السنة، وكلهم جاهل بكتاب الله، ولو قرأه لعلم ما فيه من آيات تخص اتباع رسول الله r:

{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].

ألا وإن ما حرم رسول الله r مثل الذي حرم الله.

مشكلة خطيرة يقع فيها كثير من الناس إما بجهل، وإما بقصد، وتلك هي الطامة الكبرى.

فعندما ننظر إلى حياة الصديق t تجد اقتداء برسول الله r فاق كل اقتداء، تشعر به في أقواله، وفي أفعاله، وفي حركاته وسكناته، وبهذا بلغ المنازل.

الصديق وبعث أسامة :

- انظر مثلاً إلى موقفه في إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، والحقيقة أننا نسمع عن إنفاذ جيش أسامة، فلا نعطيه قدره، ونتخيل أنه مجرد جيش خرج، ولم يلق قتالاً يذكر فأي عظمة في إخراجه؟! بيد أن دراسة ملابسات إخراجه، وتأملها تدل على عظمة شخصية الصديق، وكيف أنه بهذا العمل وهو أول أعمال خلافته، قد وضع سياسة حكمه التي تعتمد في المقام الأول على اتباع رسول الله r دون تردد، ولا شك، فقد كان رسول الله r قد أعد هذا البعث لإرساله لحرب الروم في شمال الجزيرة العربية، وقد أمّر عليه أسامة بن زيد، ولم يبلغ الثامنة عشر من عمره، ثم توفي رسول الله r، وارتدت جزيرة العرب كلها إلا ثلاث مدن هي مكة والمدينة والطائف وقرية صغيرة، وهي جواثا في منطقة هجر بالبحرين.

الجزيرة العربية كلها تموج بالردة ومع هذا أصر أبو بكر الصديق أن ينفذ بعث أسامة بن زيد إلى الروم مع اعتراض كل الصحابة على ذلك الأمر؛ لأنه ليست لهم طاقة بحرب المرتدين فكيف يرسل جيشًا كاملاً إلى الروم ويترك المرتدين، والحق أنه قرار عجيب، البلاد في حرب أهلية طاحنة، وبها أكثر من عشر ثورات ضخمة، ثم يرسل زعيم البلاد جيشًا لحرب دولة مجاورة، كان قد أعده الزعيم السابق، لكن أبو بكر كانت الأمور في ذهنه في منتهى الوضوح ما دام رسول الله r قد أمر فلا مجال للمخالفة، حتى وإن لم تفهم مقصود رسول الله r، حتى وإن لم تطلع على الحكمة والغاية، وهذه درجة عالية من الإيمان، كما أن رسول الله r قد علم بردة مسيلمة في اليمامة، والأسود العنسي في اليمن، ومع ذلك قرر تجهيز الجيش، وإرساله إلى الشام، وما دام رسول الله r قد أمر، فالخير كل الخير فيما أمر، فأصر على إنفاذ البعث إلى الروم.

جاءه الصحابة يجادلونه ويحاورونه، وهم على قدرهم الجليل لم يفهموا فهم الصديق t، فماذا قال لهم؟

قال: والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله r، ولو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة.

وبالفعل أنفذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان الخير في إنفاذه، إذ أرعبوا قبائل الشمال، وسكنت الروم، وظنوا أن المدينة في غاية القوة، وإلا لما خرج من عندهم هذا الجيش الضخم، وحفظ الله المدينة بذلك، ورأى الصحابة بعد ذلك بأعينهم صدق ظن الصديق t، لكن الصديق كان يرى الحدث قبل وقوعه؛ لأنه يرى بعين رسول الله r.

ولما رأى الصحابة إصرار أبي بكر الصديق قال بعضهم لعمر بن الخطاب: قل له فليؤمر علينا غير أسامة.

فانتفض أبو بكر وأخذ بلحية عمر بن الخطاب وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أؤمر غير أمير رسول الله r؟ وقد كانت لحظات الغضب في حياته t قليلة جدًّا، وكانت في غالبها إذا انتهكت حرمة من حرمات الله U، أو عطل أمر من أوامر رسول الله r.

- خطابه إلى عمرو بن العاص t: فقد كان رسول الله r قد ولى عمرو بن العاص مرة على عمان، ووعده أخرى بالولاية عليها، فلما استتب الأمر لأبي بكر الصديق بعد حروب الردة ولى عليها عمرو بن العاص تنفيذًا لوعد رسول الله r، مع أن هذه أمور يجوز للوالي الجديد أن يراها أو يرى غيرها حسبما رأى المصلحة، هذا أمر ليس شرعيًّا حتميًّا، ولكنه لا يريد أن يخالف ولو قدر أنملة، وهذا هو الذي وصل به إلى درجته، وهذا الذي رفع قدره، وهذا الذي سلم خطواته، وهذا الذي سدد رأيه.

ثم إنه قد احتاجه لإمارة جيش من جيوش الشام، وعمرو بن العاص طاقة حربية هامة جدًّا، لكن أبو بكر الصديق تحرج من استقدامه في مكان وضعه فيه رسول الله r مخافة أن يكره ذلك عمرو بن العاص فأرسل له رسالة لطيفة يقول فيها:

إني كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله r وَلاَّكه مرة، وسماه لك أخرى؛ مبعثك إلى عمان إنجازًا لمواعيد رسول الله r، فقد وليته ثم وليته، وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك.

- هيبته في جمع القرآن، فإنه لما استشهد عدد كبير من حفظة القرآن في موقعة اليمامة، وخشي الصحابة على ضياع القرآن ذهبوا إلى أبي بكر يعرضون عليه فكرة جمع القرآن، فكان متحرجًا أشد التحرج من هذا العمل الجليل، قال:

كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله r؟

ورسول الله r لم ينه عن جمعه، ولكن كان من عادة الصديق t أن ينظر إلى فعل رسول الله r قبل الإقدام على أي عمل، فما وجده اتبعه، فلما نظر ولم يجد رسول الله قد جمع القرآن تهيب الموقف، واحتار، ولكنه لما اجتمع عليه الصحابة، وأقنعوه وخاصة عمر، استصوب جمعه لما فيه من خير.

وهكذا في كل مواقفه t ستجد حبًّا عميقًا لرسول الله r، دفعه إلى اليقين بصدق ما قال، ودفعه أيضًا إلى الاقتداء به في كل الأفعال والأقوال، ومع ذلك فإن هذا الحب العميق لم يدفعه إلى الظلم أبدًا.

وأكتفي كدليل على ذلك بحادثة واحدة في حياة الصديق t فقد خطب رسول الله r ابنة أبي بكر عائشة حين ذكرتها خوله بنت حكيم، وكان المطعم بن عدي قد خطبها قبل ذلك لابنه, فقال أبو بكر لزوجه أم رومان: إن المطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه، والله ما أخلف أبو بكر وعدًا قط. ثم أتى مطعمًا وعنده امرأته فسأله: ما تقول في أمر هذه الجارية؟ فأقبل الرجل على امرأته ليسألها ما تقولين؟ فأقبلت هي على أبي بكر تقول: لعلنا إن أعطينا هذا الصبي إليك تصبئه وتدخله في دينك الذي أنت عليه. فلم يجيبها أبو بكر، فسأل المطعم بن عدي: ما تقول أنت؟ فكان جوابه: إنها تقول ما تسمع.

فتحلل أبو بكر عند ذلك من وعده، وقَبِلَ خطبة رسول الله r بعد أن كان علقها على موافقة المطعم بن عدي مع رغبة نفسه الأكيدة في مصاهرة رسول الله r، طراز نادر من الرجال